تعريفات ترامب- تهديد للتجارة المتكاملة وتأثيرها على أمريكا والمكسيك

بعد تفكُّر طويل وتردُّد جمّ، أعلنت إدارة الرئيس دونالد ترامب رسميًا عن الموعد النهائي لتفعيل الرسوم الجمركية البالغة 25% على أغلب البضائع والمنتجات المتدفقة إلى الولايات المتحدة من دولتي المكسيك وكندا.
وقد تم تحديد يوم الرابع من شهر فبراير ليكون "يوم تطبيق التعريفات"، وهو التاريخ الذي ستصبح فيه بعض الإجراءات العقابية والانتقامية من هاتين الدولتين الجارتين نافذة وسارية المفعول.
وفي الوقت الحالي، يتحضر المواطنون الأميركيون لمواجهة موجة الغلاء الفاحش والمتوقعة في أسعار السلع والبضائع المستوردة. وحتى هذه اللحظة، ركزت وسائل الإعلام الأميركية في تغطياتها بشكل أساسي على أمثلة محدودة وبسيطة، مثل مشروب التكيلا والأفوكادو وأنواع البيرة المختلفة. وهو الأمر الذي قد يقلل من شأن الآثار الحقيقية والواقعية لهذه التعريفات. ومع ذلك، ستشعر الأسر والعائلات الأميركية بوطأة هذه القرارات وتأثيرها بشكل ملموس وقوي، ليس فقط في مشترياتهم من المشروبات الروحية ومواد البقالة، بل وفي جوانب اقتصادية أخرى أكثر اتساعًا وعمومية.
ضربة قاصمة للتجارة المتكاملة في أميركا الشمالية
في واقع الأمر، يُعد فرض رسوم جمركية في منطقة تعتمد بشكل جوهري على التكامل التجاري المتين بمثابة وصفة مُعدة سلفًا لحدوث كارثة اقتصادية محققة. لنأخذ مثالًا حيًا على عمق العلاقات التجارية الوثيقة بين الولايات المتحدة والمكسيك. فالمكسيك تُعتبر الشريك التجاري الأكبر والأهم للولايات المتحدة، حيث تعبر سلع ومنتجات تتجاوز قيمتها 1.2 مليون دولار الحدود المشتركة بينهما كل دقيقة.
وعلى الرغم من ذلك، يتم التقليل من الأهمية الاقتصادية لدولة المكسيك بشكل مستمر ودائم؛ وذلك بسبب الصورة النمطية السلبية التي يتم الترويج لها في وسائل الإعلام الأميركية، والتي تصوّر المكسيك كدولة فقيرة وفاشلة تعاني من تفشي تجارة المخدرات وانتشار الجريمة المنظمة. وهذا التصوير المشوّه تحديدًا هو ما كان يحتاجه الرئيس ترامب لتبرير استخدام سلطاته الاستثنائية في حالات الطوارئ لفرض هذه التعريفات الجمركية المثيرة للجدل.
ترامب يجانب الصواب بشأن المكسيك
يقع الرئيس الأميركي في خطأ فادح عندما يزعم أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى المكسيك. ففي الحقيقة، من خلال فرض هذه التعريفات الجمركية، فإنه لن يتسبب فقط في إشعال فتيل التضخم وارتفاع الأسعار، حيث سيدفع الأميركيون مبالغ مالية أكبر مقابل الحصول على السلع والمنتجات التي لا يتم إنتاجها في بلادهم، ولكنه أيضًا سيُضعف ويقوّض الصناعات والقطاعات الاقتصادية نفسها التي يسعى جاهدًا لحمايتها ودعمها. علاوة على ذلك، فإن أي إجراءات انتقامية مضادة قد تتخذها الحكومة المكسيكية ردًا على هذه الخطوة ستزيد من تفاقم الوضع بالنسبة للمستهلكين والشركات والصناعات الأميركية على حد سواء.
وحتى المنتجات التي تم تسليط الضوء عليها في وسائل الإعلام الأميركية، مثل أنواع البيرة المختلفة، توضح بجلاء مدى خطورة هذا القرار الكارثي. فالمكسيك تُعتبر واحدة من أكبر الدول المنتجة والمصدرة للبيرة في العالم، إلا أنها تعتمد في الوقت نفسه على شراء ما يقرب من 75% من صادرات الشعير الأميركي للحفاظ على هذه الصناعة حيوية ومستمرة. وبالتالي، فإن أي تراجع أو انخفاض في إنتاج البيرة المكسيكية نتيجة لانخفاض الطلب الأميركي سيؤدي بلا شك إلى إلحاق الضرر بمزارعي ومنتجي الشعير الأميركيين. وينطبق الأمر نفسه أيضًا على آلاف المنتجات الأخرى التي تعتمد بشكل أساسي على التوريد عبر الحدود المشتركة.
الانعكاسات الخطيرة على صناعة السيارات الأميركية
ربما يجادل المؤيدون المتحمسون لترامب قائلين: "تحملوا هذا الوضع الصعب واشتروا المنتجات الأميركية المحلية الصنع، وسوف تتعافى سلاسل التوريد تدريجيًا". ولكن الأمر ليس بهذه البساطة على الإطلاق. فحتى لو كان من الممكن نقل جميع خطوط الإنتاج والتصنيع إلى داخل الولايات المتحدة، فإن المواطنين الأميركيين سيواجهون وضعًا اقتصاديًا كارثيًا بكل المقاييس.
خذ على سبيل المثال صناعة السيارات المزدهرة في أميركا الشمالية. فهي تعتمد بشكل كبير على تكامل واسع النطاق بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، وفقًا لاتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA). وبموجب هذه الاتفاقية، تنتقل المركبات والبضائع بشكل متكرر ذهابًا وإيابًا بين الدول الثلاث في كل مرحلة من مراحل الإنتاج، مما يضيف قيمة تدريجية لكل سيارة أو شاحنة يتم تصنيعها. ووفقًا لمنطق ترامب، ستجبر التعريفات الجمركية المفروضة شركات السيارات على إعادة الإنتاج بالكامل إلى داخل الولايات المتحدة، مما سيبقي جميع الفوائد والمزايا الاقتصادية داخل البلاد.
ولكن هذا لن يحدث على أرض الواقع، والسبب في ذلك يكمن في أنه في هذه الصناعة توجد الوظائف الماهرة ولكن منخفضة الأجر في المكسيك، وذلك لأنها وظائف يصعب أتمتتها أو استبدالها بالآلات. ولا يوجد عامل ماهر في الولايات المتحدة أو كندا على استعداد لقبول الأجور المتدنية التي يتقاضاها العاملون المكسيكيون. ومع ذلك يضيف هؤلاء العمال المكسيكيون أجزاء ومكونات حيوية في كل مرحلة من مراحل الإنتاج. والنتيجة النهائية هي سيارة ميسورة التكلفة وذات جودة عالية، وفي الوقت نفسه توفر وظائف ذات أجور جيدة داخل الولايات المتحدة.
وبفضل هذا النظام المتكامل، أصبحت الولايات المتحدة خامس أكبر دولة مُصدّرة للسيارات في العالم، بينما تعتبر كندا والمكسيك من بين أكبر الأسواق المستهلكة لهذه السيارات. ويعتمد هذا النجاح الساحق بشكل كامل على العمال المهرة في المكسيك الذين يساعدون في الحفاظ على الأسعار منخفضة وجعل السيارات في متناول الجميع.
وإذا حاولت الولايات المتحدة فرض حظر كامل وشامل على استيراد السيارات، فإن الصين ودولًا أخرى متخصصة في تصنيع السيارات ستتفوق بسهولة على المركبات الأميركية، حتى مع فرض تعريفات جمركية عالية. والنتيجة المفارقة التي لا يمكن إنكارها هي ظهور عمالة غير موثقة داخل الولايات المتحدة.
وجدير بالذكر أنه إذا تم بالفعل نقل المصانع وخطوط الإنتاج إلى داخل الولايات المتحدة، فقد تواجه البلاد مفارقة محزنة ومؤسفة للغاية. فمع سياسات ترامب الصارمة والمتشددة بشأن ترحيل المهاجرين غير الموثقين، ستصبح الشركات الأميركية مدفوعة ومضطرة للاستعانة بعمالة غير موثقة، تمامًا كما هو الحال في قطاعات الزراعة والبناء في الوقت الحالي، وذلك لتجنب دفع الحد الأدنى القانوني للأجور وخفض التكاليف وزيادة الأرباح.
من الذي يدعم من؟
في نهاية المطاف، ترامب على حق في شيء واحد فقط:
عندما يتعلق الأمر بالتجارة في أميركا الشمالية، هناك طرف يدعم الطرف الآخر ويسانده. ولكن الحقيقة المرة هي أن الولايات المتحدة لم تكن هي التي تدعم المكسيك وكندا، كما يدّعي الرئيس ترامب زورًا وبهتانًا. بل على العكس تمامًا، كان العمال المكسيكيون هم الذين دعموا الاقتصاد الأميركي، وذلك من خلال توفير عمل منخفض التكلفة يصب في مصلحة الشركات الأميركية والمستهلكين الأميركيين على حد سواء.
الحل الأمثل: تعاون نقابي عابر للحدود
لا تزال هناك فرصة سانحة لإصلاح هذا الوضع المتردي. فبينما يُلقي ترامب والقوميون الاقتصاديون المتعصبون في الولايات المتحدة باللوم على المكسيكيين ويتهمونهم بسرقة الوظائف الصناعية، كانت المكسيك تعمل بدأب على تعزيز وتنمية سلاسل التوريد في أميركا الشمالية، مع الاستجابة في الوقت نفسه لمخاوف العمال الأميركيين بشأن تدني الأجور في المكسيك. وقد اتخذت الحكومة المكسيكية بالفعل خطوات ملموسة في سبيل رفع الحد الأدنى للأجور وتعزيز الدور المحوري الذي تلعبه النقابات العمالية، مع الحفاظ في الوقت ذاته على تنافسية تكاليف العمالة.
وإذا كان العمال الأميركيون يريدون حقًا حماية وظائفهم ومصالحهم دون الانجرار وراء الخطاب الشعبوي المعادي للأجانب الذي يتبناه ترامب، فإن التعاون العابر للحدود بين النقابات العمالية في كل من الولايات المتحدة والمكسيك هو الحل الأمثل لتعزيز حقوق العمال على جانبي الحدود المشتركة.
وستكون مراجعة اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA) في عام 2026 فرصة مثالية لمناقشة هذه القضايا الحساسة والمعقدة. ولكن في حال لم تصمد الاتفاقية حتى ذلك الحين، فسيتعين على العمال أخذ زمام المبادرة بأنفسهم لإنقاذ سبل عيشهم ومستقبلهم في مواجهة القرارات والسياسات الاقتصادية المتسرعة التي يتخذها ترامب دون تفكير أو تبصُّر.